
كنّا في بدايات شهر مايو الماضي حين تصاعَد الدخان الأبيض في الفاتيكان، حاضرة كاثوليك العالم. ثم بعد دقائق، وبالجملة المعتادة نفسها “أبشّركم بفرح عظيم: لدينا بابا!”، أنهى كاردينال مرحلة البابا الأرجنتيني فرَنسيس، ليبدأ عهد الأميركي روبرت فرَنسيس بروفوست، أو البابا ليو الرابع عشر. ولكنّ هذه الهوية الأميركية أثارت في مصر أسفاً بين أقباط كاثوليك تمنوا لو جاء من يعدّونه الرأس الروحي الأعلى لهم من دول الجنوب.
المصوِّر الثلاثيني روجيه أنيس واحدٌ ممن يعرِبون عن تأسُّفهم لهوية ليو الرابع عشر. ينتمي الشاب إلى الكنيسة القبطية الكاثوليكية التي توصف بكونها “أقلية وسط أقلية” أو حتى “مُصطَنعة”. ففي مقابل نحو 10٪ من المصريين يتبعون الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تَعدّ “الكاثوليكية” نحو مئتي ألف نسمة فحسب (أقل من 1٪).
لكن رغم هذا الحجم الصغير نسبيًا، ساهم جزء من التفاعل الشعبي السلبي مع انتخاب بابا أميركي في إبراز واقع أنّ هذه الكنيسة ليست مجتمعاً معزولاً عن السياقات المحيطة به. وربما لولا هذه السياقات الملتهبة لقلَّص روجيه أنيس من سقف مطلبَيه للبابا الجديد “بمداواة آلام البشر.. في عالمٍ يعجّ بالصعاب”، “وبتأكيد التسامح والانفتاح على الآخر كائنًا من كان”.
يشير الشاب الثلاثيني إلى إدراكه مدى صعوبة “خلافة بابا استثنائي”. ولكنّ طبيعة مطلبَيه تكسب أهميةً لكونه ولِد في المنيا، وهي محافَظة توصف بالبؤرة الأبرز للعنف الطائفي بين المسلمين والمسيحيين. كما أنّه نشأ في “بيئة متعددة ومتقبّلة للتعددية”، خاصة أنّ كلاً من والدَيه ينتمي إلى واحدةٍ من جماعتَي الأقباط المصريين. رغم ذلك، يروي أنّ في مرة سمع كاهناً في قدّاس بإحدى الكنائس الأرثوذكسية يقول إنّ “من لا يتّبع هذه الكنيسة، لن تحل عليه البركة”. فكأنّ الأقباط الكاثوليك في مصر مثل المحاصرين من كل مكان.
مزيج فريد
يختلف المؤرخون بدرجة ما حول بداية التمأسس الكاثوليكي في مصر، وذلك رغم توافق حول أن “الانشقاق العظيم” في المسيحية في القرن الحادي عشر بين الكنيستَين الكاثوليكية الغربية والأرثوذكسية الشرقية صحبه اتّباع أقلية للفاتيكان. غير أنّ بعض المصادر تشير إلى أنّه كان يُنظَر إلى الأقباط طوال العصور الوسطى “باعتبارهم هراطقة”. ويعود سبب ذلك إلى الانقسام المبكر داخل المسيحية حول طبيعة المسيح، ورفض أقباط سيوصفون بالأرثوذكس إقرارَ مجمع خلقيدونية في عام 451 بالطبيعتَين الكاملتَين الإلهية والبشرية.
تعزَّز الحضور الكاثوليكي في مصر مع بدايات اهتمام الفاتيكان بالشرق خاصة في القرن السادس عشر، وقبل ذلك “مع وصول الإرساليّات الفرنسيسكانية في الثالث عشر”، وفق موقع [كنيسة السيدة العذراء مريم للأقباط الكاثوليك. ولكن في عام 1741 سيُعيِّن البابا نائبًا رسوليًا للجماعة الصغيرة من الأقباط الكاثوليك المصريين، والتي لم يكن عددها آنذاك يتجاوز الألفَي شخص بحسب مصادر مفتوحة تُعنى بواقع كنائس الشرق وتاريخها.
في التاريخ المعاصر، حظي الوجود الكاثوليكي بدعم واضح في القرن التاسع عشر من محمد علي ثم الخديوي إسماعيل. فقد شجّع الرجلان الراغبين من المسيحين في التحول من الكنيسة الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية، وذلك ضمن مساعيهما للتقرّب من الغرب طمعًا بالتحديث وبالدعم في وجه الدولة العثمانية التي ستسمح للأقباط الكاثوليك بالشروع في بناء كنائسهم الخاصة في عام 1829.
يوضح أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة، محمد عفيفي، أن “النقلة الحقيقية جاءت مع وصول محمد علي إلى الحكم، ليس من منطلق فرض الانتماء إلى الكنيسة الكاثوليكية، ولكن في إطار سياسة الانفتاح التي تبنّاها والتي سمحت بعدد من الهجرات إلى مصر، منها هجرات التابعين للكنيسة الكاثوليكية، ما جعل التبشير فعلاً اجتماعياً عبر التقارب والاختلاط الاجتماعي، وليس دينياً”.
وقد شكّلت مصر نقطة جذب للتبشير الكاثوليكي في تلك المرحلة، وفق عفيفي. ولكنّه يشير إلى أن النجاحات التبشيرية كانت محدودة جداً في مقابل الافتخار القبطي بالتمسك بالأرثوذكسية. كما يلفت إلى أن “الكنيسة الأرثوذكسية كانت في مواجهة حاسمة لتحول دون تحوّل أتباعها إلى الكاثوليكية”.
يسلّط عفيفي الضوء على أن من تفاعل مع الإرساليات التبشيرية الكاثوليكية في ذلك الوقت كانوا من المسيحيين أساسا.ً أما المسلمون، فكان عددهم قليلاً، وغالبيتهم ممن سافر إلى الخارج من أجل الدراسة، وتأثر بالحضارة الغربية. أو أنه تفاعل مع من جاء إلى مصر من أجل العمل، خاصة في مرحلة حفر قناة السويس عام 1859، وقبلها مع الحملة الفرنسية على مصر عام 1798.
وسط هذه الخلفية، تُجسِّد الكنيسة القبطية الكاثوليكية، وفق موقع “كنيسة السيدة العذراء”، «مزيجاً فريداً من التراث المسيحي المصري والتقليد الكاثوليكي الروماني». فالانتماء يعود إلى الفاتيكان، فيما الهوية قبطية على صعد الطقوس والتراث. بدوره، يلفت المؤرخ محمد عفيفي إلى أن غالبية من اختار الانتماء إلى الكنيسة الكاثوليكية في مصر كان من الأكثر ثراءً والأكثر انفتاحًا. وذلك رغم أن أصل الأمر يعود إلى أن الإرساليات التبشيرية كانت تعمل في الأوساط كلها، خاصة أوساط الفقراء والمعوزين في الصعيد الذي يتركَّز فيه المسيحيون.
خيار الكثلكة
يُعد “المعلم غالي”، الذي كان من كبار الأقباط العاملين في ديوان محاسبة محمد علي، أبرز من انتقل من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية. وبينما يرى الباحث في التاريخ والمدير الأسبق للمتحف القبطي، عاطف نجيب، أن تحوّل المعلم غالي جاء بطلب من محمد علي، فإن المؤرخ محمد عفيفي يرى أنه وغيره من كبار الأثرياء الأقباط انتقلوا إلى الكاثوليكية تأثراً خاصة بالثقافة الغربية. والكاثوليكية التي أعجبتهم سواء عبر السفر إلى الخارج أو عبر التعامل مع الكاثوليك في مصر، من الإيطاليين أو المالطيين أو الفرنسيين. وهؤلاء وصولوا إلى مصر في القرن الثامن عشر، أو مع الهجرة الكبيرة للشوام المسيحيين هرباً من الاضطهاد في القرن التاسع عشر، أو هجرات الأرمن المسيحيين إلى مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يتحدث الأب يوحنا قلتة، المولود في ثلاثينات القرن العشرين، في روايته “قرية غرب النيل” الدامجة بين السيرة الذاتية والأدب، عن تجارب الانتقال من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية في سياق يبدو أكثر ارتباطًا بالوضعية الاجتماعية من الخيارات العقائدية، دون إغفال لتفضيل المنتقلين للكاثوليكية بسبب ما لمسوه من ارتياح أكثر في التعامل مع الراهب الكاثوليكي عن الراهب الأرثوذكسي، وهو ما عرّض الكاتب لانتقادات كثيرة من الكنيسة الأرثوذكسية.
لكن عفيفي يلفت إلى أن الأريحية المعقولة التي تمتع بها المبشرون الكاثوليك واجهت تحديًا كبيرًا مع توسع الإرساليات البروتستانتية إلى مصر في القرن التاسع عشر. فقد «كان الواعظ البروتستناتي لا يرتدي زياً كنسياً تقليدياً، بل بدلة، ويتحدث في الشأن الدنيوي أكثر من الشأن الديني، وهو ما كان عامل جذب لكثيرين»، وفقاً لعفيفي. ويضيف أنه “يقال إن حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، تأثر بالتبشيريين البروتستانت في طريقة دعوته إلى الانتماء إلى الجماعة”.
الوجه الثقافي
يلفت عاطف نجيب إلى أن المتحف القبطي المصري لا يضم بين مقتنياته أي آثار للتواجد الكاثوليكي في مصر. ولكنّ التلميذة السابقة في واحدة من مدارس الراهبات الكاثوليك في مصر، داليا محمود، تلفت إلى حاضن مستدام لبصمة الكاثوليك المصريين خاصة الثقافية. يُعدّ المركز الكاثوليكي المصري للسينما، المتواجد داخل كنيسة سان جوزيف للفرنسيسكان في وسط القاهرة واحداً من أبرز واجهات البصمة الثقافية. وفي بداية مايو الماضي أحيا المركز الدورة الـ73 لمهرجانه السينمائي الذي تأسس عام 1952، ويُعدّ من أقدم مهرجانات السينما في مصر والشرق الأوسط عموماً، ويُعتَبَر رئيسه الأب بطرس دانيال من أبرز الشخصيات الثقافية المصرية على الإطلاق.
ويلفت روجيه أنيس إلى “المساحات الثقافية” التي أوجدها التواجد الكاثوليكي في مصر، مثلك المركز الثقافي للجيزويت، الذي درس كثيرون وكثيرات من أبناء جيله فيه أنواعاً مختلفة من الفنون والثقافة. كما يشير إلى مكتبة الدومنيكان في العباسية بالقاهرة، التي تُعدّ من أضخم المكتبات المتخصصة في الدراسات الإسلامية والنصوص العربية وأرقاها، والتي تعمل بالشراكة مع عدد من الجامعات والمؤسسات في مصر مثل جامعة الأزهر والمعهد الفرنسي للدراسات الشرقية والمكتبة الوطنية الفرنسية.
وأخيرًا يعرب روجيه عن عدم اهتمامه بالنظر إلى الكاثوليك من منظور عدد من يحضرون القداس، إذ إنّ “أعدادهم تتناقص”. يعيد الأمر إلى أسباب مختلفة تتعلق بالهجرة في منتصف القرن العشرين، وبالعمر المتقدم لكثيرين لم يعودوا قادرين على التردد إلى الكنائس بانتظام، وبتراجع جيل الشباب عن التردد إلى الكنيسة في غير الأعياد. ولكنّه في المقابل يُشدِّد على أن “اهتمام الكيانات الكاثوليكية في مصر بالثقافة، هو من أحب الأشياء إلى نفسِ كاثوليكي قبطي”.